فصل: تفسير الآيات رقم (98- 104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية الكتاب‏:‏ القرآن، و‏{‏مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏‏:‏ يعني التوراةَ، و‏{‏يَسْتَفْتِحُونَ‏}‏ معناه أن بني إِسرائيل كانوا قبل مَبْعَثِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما علموا عنْدَهُمْ من صفته، وذكر وقته، وظنُّوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوْسَ والخَزْرجَ، فغلبتهم العَرَبُ، قالوا لهم‏:‏ لو قد خرج النبيُّ الذي أظلَّ وقتُهُ، لقاتلْنَاكُم معه، واستنصرنا عليكم به، ويَسْتَفْتِحُونَ‏:‏ معناه يستنصرُونَ، قال أحمد بن نَصْرٍ الداووديُّ‏:‏ ومنه‏:‏ «عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالفَتْحِ»، أي‏:‏ بالنصر‏.‏ انتهى‏.‏

وروى أبو بكر محمد بن حُسَيْنٍ الاْجُرِّيُّ عن ابن عبَّاس، قال‏:‏ كانت يهودُ خَيْبَرَ يُقَاتِلُونَ غَطَفَانَ، فكُلَّمَا التقوا، هزمت اليهودَ، فَعَاذَ اليهودُ يوماً بالدعاء، فقالوا‏:‏ اللهم، إِنا نسألكَ بحَقِّ محمَّدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ الذي وعدتَّنَا أن تخرجَهُ لَنَا في آخر الزمان إِلاَّ نَصَرْتَنا علَيْهم، فكانوا إِذا التقوا، دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غَطَفَانَ، فلما بُعِثَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَرُوا به، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ‏}‏، والاستفتاحُ‏:‏ الاستنصار، ووقع ليهود المدينة نحو هذا مع الأنصار قُبَيْل الإِسلام‏.‏ انتهى من تأليف حسن بن عليِّ بن عبد المَلْكِ الرّهونيِّ المعروفِ بابْنِ القَطَّان، وهو كتابٌ نفيسٌ جِدًّا ألَّفه في معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآيات نبوءته‏.‏

وروي أن قريظة والنضير وجميعَ يَهُودِ الحجازِ في ذلك الوقْتِ كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبيِّ المنتظر، كانت نقلتهم إلى الحجاز، وسُكْناهم به، فإِنهم كانوا علموا صُقع المَبْعَث، وما عرفوا هو محمَّد صلى الله عليه وسلم وشرعه؛ ويظهر في هذه الآية العنادُ منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة و‏{‏لَعْنَةُ الله‏}‏ إبعاده لهم، وخزيهم لذلك‏.‏

و ‏{‏بِئْسَ‏}‏‏:‏ أصله «بَئِسَ»، سُهِّلت الهمزة، ونقلت حركتها إلى الباء، و«مَا» عند سيبويه‏:‏ فَاعِلَةٌ ب «بِئْسَ» والتقدير‏:‏ بِئْسَ الذي اشتروا به أنفسُهُمْ‏.‏

و ‏{‏اشتروا‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ بَاعُوا‏.‏

و ‏{‏مَا أَنزَلَ الله‏}‏، يعني به القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل أن يراد الجميع من توراة، وإِنجيل، وقرآن؛ لأن الكفر بالبعض يستلزمُ الكفر بالكلِّ، و‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏، يعني‏:‏ من النبوءة والرسالة، و‏{‏مَن يَشَآءُ‏}‏، يعني به محمَّداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حَسَدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، ويدخلُ في المعنى عيسى صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا به بَغْياً، واللَّه قد تفضَّل عليه‏.‏

و ‏{‏بَاءُو‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ مَضَوْا متحمِّلين لما يذكر؛ أنهم بَاءُوا به‏.‏

وقال البُخَاريُّ‏:‏ قال قتادة‏:‏ ‏{‏بَاءُو‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ انقلبوا‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏بِغَضَبٍ‏}‏ معناه من اللَّه تعالى؛ لكفرهم بمحمَّد صلى الله عليه وسلم على غَضَبٍ متقدِّم من اللَّه تعالى عليهم، قيل‏:‏ لعبادتهم العِجْلَ‏.‏

وقيل‏:‏ لكفرهم بعيسى- عليه السلام- فالمعنى‏:‏ على غَضَبٍ قد باءَ به أسلافهم، حظُّ هؤلاءِ منْهُ وافرٌ؛ بسبب رضاهم بتلك الأفعال، وتصويبِهِمْ لها‏.‏

و ‏{‏مُّهِينٌ‏}‏‏:‏ مأخوذ من «الهَوَانِ»، وهو الخلود في النَّار؛ لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين، إنما عذابه كعذابِ الذي يقام عليه الحدُّ، لا هوان فيه، بل هو تطهيرٌ له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏، يعني لليهود‏:‏ ‏{‏آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ‏}‏ على محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن، ‏{‏قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ يعنون‏:‏ التوراةَ، ‏{‏وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏؛ قال قتادة‏:‏ أي‏:‏ بما بعده، قال الفَرَّاء‏.‏ أي‏:‏ بما سواه، ويعني به‏:‏ القرآن، ووصف تعالى القرآن؛ بأنه الحق و‏{‏مُصَدِّقاً‏}‏‏:‏ حالٌ مؤكِّدة؛ عند سيبَوَيْهِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ردٌّ من اللَّه تعالى عليهم، وتكذيبٌ لهم في ذلك، واحتجاج عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 95‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَآءَكُم موسى بالبينات‏}‏‏:‏ ‏{‏البينات‏}‏‏:‏ التوراةُ، والعصَا، وفَرْقُ البَحْرِ، وسَائِرُ الآياتِ، و‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ التوراةَ والشرْعَ ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏، أي‏:‏ بعزمٍ، ونشاطٍ‏.‏ وجِدٍّ‏.‏

‏{‏وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل‏}‏‏:‏ أي‏:‏ حبَّ العجْلِ، والمعنى‏:‏ جُعِلَتْ قلوبهم تَشْربه، وهذا تشبيهٌ ومجازٌ عبارة عن تمكُّن أمر العِجْل في قلوبهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِكُفْرِهِمْ‏}‏ يحتمل أن تكون باء السببِ، ويحتمل أن تكون بمعنى «مَعَ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم‏}‏ أمر لمحمَّد صلى الله عليه وسلم أن يوبِّخهم؛ لأنَّه بئس هذه الأشياء التي فَعَلْتُمْ، وأمركم بها إِيمانُكُم الذي زعمتُمْ في قولكم‏:‏ ‏{‏نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أمر لمحمَّد صلى الله عليه وسلم أنْ يوبِّخهم، والمعنى‏:‏ إِن كان لكم نعيمُهَا وحُظْوَتُهَا، وخيرها، فذلك يقتضي حرْصَكُم على الوصُول إِليها، ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏، والدَّارُ‏:‏ اسمُ «كان»، و«خَالِصَة»‏:‏ خبرها و‏{‏مِّن دُونِ الناس‏}‏ يحتملُ أن يراد ب «النَّاس»‏:‏ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم، وهذه آية بيِّنة أعطاها اللَّه رسولَهُ محمَّداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود قالَتْ‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وشبه ذلك من القول، فأمر اللَّه نبيَّه أن يدعوهم إلى تمنِّي الموت، وأن يعلمهم أنه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلموا صدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عن تمنِّيه فَرَقاً من اللَّه؛ لِقبحِ أفعالهم ومعرفتهم بكذبِهم، وحرصاً منهم على الحَيَاة، وقيل‏:‏ إِن اللَّه تعالى منعهم من التمنِّي، وقصرهم على الإِمساك عنه؛ لتظهر الآية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

* ت *‏:‏ قال عِيَاضٌ‏:‏ ومن الوجوه البَيِّنة في إِعجاز القُرْآن آيٌ وردتْ بتعجيز قومٍ في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فَعَلُوا ولا قَدَرُوا على ذلك؛ كقوله تعالى لليهود‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة عِندَ الله خَالِصَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج في هذه الآية‏:‏ أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة؛ لأنهُ قال لهم‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم ‏"‏ والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ ‏"‏، يعني‏:‏ يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ‏:‏ من أَعجب أمرهم؛ أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم‏.‏ انتهى من «الشِّفَا»‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏تَمَنَّواْ‏}‏‏:‏ أريدوهُ بقلوبكم، واسْألوهُ، هذا قَوْلُ جماعة من المفسِّرين، وقال ابن عبَّاس‏:‏ المراد به السؤالُ فقطْ، وإِن لم يكن بالقَلْب، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنَّونه أبداً، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إِلى الأيدي؛ إِذ الأَكْثَرُ من كسب العبد الخير والشرَّ، إِنما هو بِيَدَيْهِ، فحمل جميعُ الأشياء على ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏‏:‏ ظاهره الخبر، ومضمَّنه الوعيدُ؛ لأن اللَّه سبحانه عليمٌ بالظالمينَ، وغيرهمْ، ففائدة تخصيصهم حصولُ الوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة‏}‏ الآية‏:‏ وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم، وأن لا خير لهم عند اللَّه تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ المعنى‏:‏ وأحرصُ من الذين أشركوا لأن مشركِي العَرَبِ لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، والضمير في ‏{‏أَحَدُهُمْ‏}‏ يعودُ في هذا القول على اليهودِ، وقيل‏:‏ إِن الكلام تَمَّ في حياةٍ، ثم استؤنف الإِخبار عن طائفة من المشركين؛ أنهم يودُّ أحدهم لو يُعمَّر ألف سنَةٍ، والزحزحة الإبعاد والتنحية، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ وعيدٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ أجمع أهل التفْسير؛ أن اليهود قالتْ‏:‏ جبريلُ عدوُّنا، واختلف في كيفيَّة ذلك، فقيل‏:‏ إن يهود فَدَك قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نَسْأَلُكَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ عَرَفْتَهَا، اتبعناك، فَسَأَلُوهُ عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ، فَقَالَ‏:‏ لُحُومُ الإِبِلِ، وأَلْبَانُهَا، وَسَأَلُوهُ عَنِ الشَّبَهِ فِي الوَلَدِ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّ مَاءٍ عَلاَ، كَانَ لَهُ الشَّبَهُ، وَسَأَلُوهُ عَنْ نَوْمِهِ، فَقَالَ‏:‏ تَنَامُ عَيْنِي، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي، وَسَأَلُوهُ عَنْ مَنْ يَجِيئُهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَقَالَ‏:‏ جِبْرِيلُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ، قَالُوا‏:‏ ذَاكَ عَدُوُّنَا؛ لأنَّهُ مَلَكُ الحَرْبِ، وَالشَّدَائِدِ، وَالجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَجِيئُكَ مِيكَائِيلُ مَلَكُ الرَّحْمَةِ، وَالخِصْب، والأَمْطَار، لاتَّبَعْنَاكَ ‏"‏‏.‏ وَفِي جِبْرِيلَ لغاتٌ‏:‏

جِبْرِيلُ؛ بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، وجَبْرِيلُ، بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه؛ أنه قال‏:‏ رأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ وهو يَقُرَأُ‏:‏ جَبْرِيلَ وَمِيكَالَ، فلا أزال أقرأها أبداً كذلك‏.‏

* ت *‏:‏ يعني، واللَّه أعلم‏:‏ مع اعتماده على روايتها، قال الثعلبيُّ‏:‏ والصحيح المشهورُ عن ابْن كَثِيرٍ ما تقدَّم من فتح الجيم، لا ما حُكِيَ عنه في الرؤْيَا من كَسْرها‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر ابن عبَّاس وغيره؛ أنَّ جِبْر، ومِيك، وإِسْرَاف هي كلُّها بالأعجميَّة بمعنى عَبْد وممْلُوك، وإِيلُ‏:‏ اللَّهُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ‏}‏ الضمير في «إِنَّهُ» عائد على اللَّه تعالى، وفي «نَزَّلَهُ» عائدٌ على «جِبْرِيل»، أي‏:‏ بالقرآن، وسائر الوحْي، وقيل‏:‏ الضمير في «إنَّهُ» عائدٌ على جبريل، وفي «نَزَّلَهُ» عائد على القرآن، وخص القلب بالذِّكْر؛ لأنه موضع العقْل والعلْم، وتلقِّي المعارف‏.‏

و ‏{‏بِإِذْنِ الله‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بعلْمه وتمكينه إِياه من هذه المنزلة، و‏{‏مُصَدِّقاً‏}‏‏:‏ حالٌ من ضمير القرآن في «نَزَّلَهُ»، و‏{‏مَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏‏:‏ ما تقدَّمه من كتب اللَّه تعالى، ‏{‏وَهُدًى‏}‏، أي‏:‏ إِرشاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 104‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ وعيدٌ وذمٌّ لمعادِي جبريلَ، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوةَ اللَّهِ لهم، وعطف جبريل وميكائل على الملائكة، وقد كان ذكْر الملائكة عمَّهما؛ تشريفاً لهما؛ وقيل‏:‏ خُصَّا لأن اليهود ذكروهما، ونزلَتِ الآية بسببهما؛ فذكرا لئلا تقول اليهود‏:‏ إِنا لم نُعَادِ اللَّه، وجميعَ ملائكتِهِ، وعداوةُ العبدِ للَّه هي مَعْصِيَتُهُ، وترْكُ طاعته، ومعاداةُ أوليائه، وعداوةُ اللَّه للعبْدِ تعذيبُهُ وإظهار أثر العداوة عليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَكُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ قال سيبوَيْه‏:‏ «الواو للعطف، دخلت عليها ألف الاستفهام»، والنبذ‏:‏ الطَّرْح، ومنه المنبوذ، والعَهْد الذي نبَذُوه‏:‏ هو ما أُخِذَ عليهم في التوراة من أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله‏}‏ هو محمَّد صلى الله عليه وسلم و‏{‏مُصَدِّقٌ‏}‏‏:‏ نعْتٌ لرسولٍ، وكتابُ اللَّه‏:‏ القُرْآن، وقيل‏:‏ التوراة؛ لأن مخالفتها نبذٌ لَهَا، و‏{‏وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏؛ مَثَلٌ؛ لأن ما يجعل ظهريًّا، فقد زال النظَر إِلَيْه جملةً، والعرب تقول‏:‏ جَعَلَ هذا الأمْرَ وراءَ ظهره، ودَبْرَ أُذُنِهِ‏.‏

وَ ‏{‏كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ تشبيهٌ بمن لا يَعْلَم فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على عِلْمٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يعني اليهود، و‏{‏تَتْلُواْ‏}‏‏:‏ قال عطاءٌ‏:‏ معناه‏:‏ تقرأ، وقال ابن عبَّاس‏:‏ ‏{‏تَتْلُواْ‏}‏‏:‏ تتبع، و‏{‏على مُلْكِ سليمان‏}‏، أي‏:‏ على عهد مُلْكِ سليمانَ، وقال الطبريُّ‏:‏ ‏{‏اتبعوا‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ فَضَّلُوا، و‏{‏على مُلْكِ سليمان‏}‏، أي‏:‏ على شرعه ونبوءته، والَّذي تلته الشياطينُ، قيل‏:‏ إِنهم كانوا يلقون إِلى الكهنة الكَلِمَةَ من الحَقِّ معها المائةُ من الباطل؛ حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سُلَيْمَانُ، ودفَنَه تحْت كرسيِّه، فلما مات، أخرجته الشياطينُ، وقالت‏:‏ إن ذلك كان علْمَ سُلَيْمَان‏.‏

وروي أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لما ذَكَر سليمانَ- عليه السلام- في الأنبياء، قال بعضُ اليهود‏:‏ انظروا إلى محمَّد يذكر سليمانَ في الأنبياء، وما كان إِلا ساحراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سليمان‏}‏ تبرئةٌ من اللَّه تعالى لسليمان- عليه السلام‏.‏

والسِّحْرُ والعمل به كفْرٌ، ويقتلُ السَّاحر عند مالك؛ كُفْراً، ولا يستتابُ؛ كالزنديقِ، وقال الشافعيُّ‏:‏ يسأل عن سِحْره، فإِن كان كُفراً، استتيب منه، فإِن تاب، وإِلا قتل، وقال مالكٌ فيمَنْ يعقدُ الرجَالَ عن النساءِ‏:‏ يعاقَبُ، ولا يُقْتَلُ، والناس المعلَّمون‏:‏ أتباعُ الشياطين من بني إِسرائيل، ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏‏:‏ «مَا» عطْفٌ على السِّحْر، فهي مفعولةٌ، وهذا على القول بأن اللَّه تعالى أنزل السِّحْرَ على الملكَيْن؛ ليكفر به من اتبعه، ويؤمن به من تركه، أو على قول مجاهد وغيره؛ أنَّ اللَّه تعالى أنزل على الملكَيْن الشيْءَ الذي يفرق به بين المرء وزوجه، دون السِّحْر، أو على القول؛ أن اللَّه تعالى أنزل السحر عليهما؛ ليُعْلَم على جهة التحذير منه، والنهْيِ عنه‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ والتعليمُ؛ على هذا القول، إِنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل‏:‏ «إِنَّمَا» عطف على «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا تَتْلُواْ‏}‏، وقيل‏:‏ «ما» نافية، ردٌّ على قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سليمان‏}‏، وذلك أنَّ اليهود قالُوا‏:‏ إن اللَّه تعالى أنزل جبريلَ وميكَائلَ بالسِّحْر، فنفى اللَّه ذلك‏.‏

* ت *‏:‏ قال عِيَاضٌ‏:‏ والقِرَاءَةُ بكسر اللام من الملكَيْن شاذَّة، وبَابِل‏:‏ قُطْر من الأرض، وهَارُوتُ ومَارُوتُ‏:‏ بدل من الملكَيْن، وما يذكر في قصتهما مع الزُّهرةِ كُلُّه ضعيفٌ؛ وكذا قال‏:‏ * ع *‏.‏

* ت *‏:‏ قال عياض‏:‏ وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسِّرون في قصَّة هَارُوت ومَارُوت‏.‏ وما رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ- رضي اللَّه عنهما- في خَبَرِهما، وابتلائهما، فاعلم- أكرمك اللَّه- أن هذه الأخبار لم يُرْو منها سقيمٌ ولا صحيحٌ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وليس هو شَيْئاً يؤخذ بقياسٍ، والذي منه في القرآن، اختلف المفسِّرون في معناه، وأنكَرَ ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود، وافترائهم؛ كما نصَّه اللَّه أول الآيات‏.‏ انتهى‏.‏ انظره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَلِّمَانِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ذكر ابْنُ الأعرابيِّ في «اليَاقُوتَةِ»؛ أنَّ ‏{‏يُعَلِّمَانِ‏}‏ بمعنى «يُعْلِمَانِ، ويشعران»؛ كما قال كعب بن زهير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أنَّكَ مُدْرِكِي *** وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ

وحَمَلَ هذه الآية على أن الملكين إِنما نزلا يُعْلِمَانِ بالسَّحْر، وينهَيَان عنه، وقال الجمهورُ‏:‏ بل التعليمُ على عرفه‏.‏

* ص *‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَحَدٍ‏}‏‏:‏ «مِنْ» هنا زائدةٌ مع المفعول لتأكيد استغراق الجنْس؛ لأن أحداً من ألفاظ العموم‏.‏ انتهى‏.‏

وَ ‏{‏يَفْرِّقُونَ‏}‏‏:‏ معناه فرقةَ العِصْمَة، وقيل‏:‏ معناه يُؤْخِّذُونَ الرجُلَ عن المرأة؛ حتى لا يَقْدِرَ على وطْئها، فهي أيضاً فرقةٌ، و‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بعلمه، وتمكينه، و‏{‏يَضُرُّهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ في الآخرة، والضميرُ في علموا عائدٌ على بني إِسرائيل، وقال‏:‏ ‏{‏اشتراه‏}‏؛ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أنْ يعُلَّمُوا، والخَلاَقُ‏:‏ النصيب والحظُّ وهو هنا بمعنى الجاه والقَدْرِ، واللامُ في قوله‏:‏ «لَمَن» للقسمِ المؤذنة بأنَّ الكلام قَسَمٌ لا شرط‏.‏

* م *‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ مَا‏}‏‏:‏ أبو البقاء‏:‏ جواب قسمٍ محذوفٍ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ، أي‏:‏ السحرأو الكفر، والضمير في «بِهِ» عائدٌ على السحر، أو الكفر‏.‏ انتهى‏.‏

وَ ‏{‏شَرَوْاْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ باعوا، والضمير في «يَعْلَمُونَ» عائدٌ على بني إسرائيل اتفاقا، ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ الذين اشْتَرُوا السِّحْرَ، وجوابُ‏:‏ «لَوْ»‏:‏ ‏{‏لَمَثُوبَةٌ‏}‏، والمثوبةُ؛ عند الجمهور‏:‏ بمعنى الثواب‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ يحتمل نفْيَ العلْمِ عنهم، ويحتمل‏:‏ لو كانوا يعلمون عِلْماً ينفع‏.‏

وقرأ جمهورُ النَّاس‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏؛ من المراعاة؛ بمعنى‏:‏ فَاعِلْنَا، أي‏:‏ ارعنا نَرْعَكَ، وفي هذا جَفَاءٌ أنْ يُخَاطِب به أحدٌ نبيِّهُ، وقد حضَّ اللَّه تعالى على خَفْض الصوت عنده، وتعزيرِهِ وتوقيرِهِ، وقالتْ طائفةٌ‏:‏ هي لغةٌ للعرب، فكانت اليهودُ تصرفها إلى الرُّعُونَة؛ يظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويُبْطِنُون أنهم يريدونَ الرُّعُونَة التي هي الجَهْلُ، فنهى اللَّه المؤمنين عن هذا القول؛ سَدًّا للذريعةِ؛ لئلاَّ يتطرق منه اليهود إِلى المحظور، و‏{‏انظرنا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ انتظرنا، وأمهل علَيْنا، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ تفقَّدنا من النَّظَر، والظاهرُ عنْدي استدعاءُ نظر العَيْن المقترِنِ بتدبُّر الحال، ولما نهى اللَّه تعالى في هذه الآية، وأمر، حض بَعْدُ على السمع الذي في ضمنه الطاعةِ، وأَعلَمَ أنَّ لمن خالف أمره، فكفر عذاباً أليماً، وهو المؤلم، ‏{‏واسمعوا‏}‏‏:‏ معطوفٌ على ‏{‏قُولُواْ‏}‏، لا على معمولها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏ مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يتناول لفظُ الآيةِ كلَّ خير، والرحمةُ في هذه الآية عامَّة لجميعِ أنواعها، وقال قومٌ‏:‏ الرحمة القرآن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ النَّسْخُ؛ في كلام العرب، على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ النَّقْل؛ كنقل كتابٍ من آخر، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية، وورد في كتاب اللَّه تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ الإِزالةُ، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ‏:‏

أحدهما‏:‏ يثبت الناسخ بعد المنسوخ؛ كقولهم‏:‏ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ‏.‏

والآخر‏:‏ لا يثبت؛ كقولهم‏:‏ نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ‏.‏

وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن وحَدُّ «النَّاسِخ» عنْد حُذَّاق أهل السنة‏:‏ الْخِطَابُ الدالُّ على ارتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً، مع تراخيه عنه‏.‏

* ت *‏:‏ قال ابن الحاجِبِ‏:‏ والنَسْخُ؛ لغةً‏:‏ الإِزالة، وفي الاصطلاح‏:‏ رفع الحُكْمِ الشرعيِّ؛ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر‏.‏ انتهى من «مختصره الكبير»‏.‏

والنسْخُ جائز على اللَّه تعالى عقلاً؛ لأنه لا يلزم عنه محالٌ، ولا تتغيرُ صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت، ولا النسخ؛ لطروء علْم، بل اللَّه تعالى يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني، والبَدَاءُ لا يجوزُ على اللَّه تعالى؛ لأنه لا يكون إلا لطروءِ علْمٍ أو لتغيُّر إِرادة؛ وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالى، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاءَ واحداً، فلم يجوِّزوه، فضَلُّوا‏.‏

والمنسوخُ؛ عند أئمتنا‏:‏ الحُكْم الثابتُ نفسُه، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبلُ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنَّ الأوامر مرادةٌ، وأن الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ، ومراد اللَّه تعالى حَسَنٌ، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا ترتبطُ بالإِرادة، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام، إِنما هو من جهة الشرع، لا بصفة نفسيَّة، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ، وليس به؛ لأن المخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ، ولو تناوله العموم، لكان نسخاً، والنسخ لا يجوز في الأخبار، وإِنما هو مختصٌّ بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً؛ بأن قال‏:‏ أليس معناه وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا، فهذا خبر، والجوابُ أن يقال‏:‏ إِن في ضمن المعنَى‏:‏ إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم، وأرفعه، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك الإِخبار؛ كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ، وصور النسخ تختلفُ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ، وبالعكس، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم، وبالعكس، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر، ونسْخُ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ؛ وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجودٌ في قوله- عليه السلام-

‏"‏ لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ‏"‏، وهو ظاهر مسائل مالكٍ‏.‏

* ت *‏:‏ ويعني بالسنةِ الناسخة للقرآن الخَبَرَ المتواترَ القطعيَّ، وقد أشار إلى أن هذا الحديث مُتَوَاتِرٌ، ذكره عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏، واختلف القُرَّاء في قراءة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنسِهَا‏}‏ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «نَنْسَأْهَا»؛ بنون مفتوحةٍ، وأخرى ساكنة، وسين مفتوحة، وألف بعدها مهموزةٍ، وهذا بمعنى التأخير، وأما قراءة نافعٍ والجمهورِ‏:‏ «نُنْسِهَا»؛ من النسيان، وقرأَتْ ذلك فرقةٌ إِلاَّ أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير والنِّسْيَان في كلام العربِ يجيء في الأغلب ضدَّ الذكر، وقد يجيء بمعنى التَّرْك، فالمعاني الثلاثة مقولَةٌ في هذه القراءات، فما كان منها يترتَّب في لفظةَ النسيان الذي هو ضدُّ الذكْر، فمعنى الآية به‏:‏ ما ننسَخْ من آيةٍ أو نقدِّر نسيانَكَ لَهَا، فإنَّا نأتي بخيرٍ منها لكُمْ أو مثلها في المنفعة، وما كان على معنى الترك، أو على معنى التأخيرِ، فيترتَّب فيه معانٍ، انظرها، إِنْ شئْتَ فإِنِّي آثرت الاختصار‏.‏

* ع *‏:‏ والصحيح أن نسيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أراد اللَّه أن يَنْسَاهُ، ولم يرد أن يثبته قرآناً- جائزٌ، فأما النِّسْيَان الذي هو آفة في البشر، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ منْه قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظْه أحد من أصْحابه، وأما بعد أن يحفظ، فجائز علَيْه ما يجوز على البَشَر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ، وأدَّى الأمانة؛ ومنه الحديثُ، ‏"‏ حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ‏:‏ «أَفِي القَوْمِ أُبَيٌّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ حَسِبْتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَمْ تُرْفَعْ، وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا» ‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ التقرير، ومعنى الآية أن اللَّه تعالى ينسخ ما شاء، ويثبت ما شاء، ويفعل في أحكامه ما شاء، هو قدير على ذلك، وعلى كلِّ شيء، وهذا لإِنْكَارِ اليَهُودِ النَّسْخَ، وقوله‏:‏ ‏{‏على كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ عمومٌ، معناه الخصوصُ، إِذ لا تدخل فيه الصفاتُ القديمةُ؛ بدليل العقل، ولا المحالاتُ؛ لأنها ليستْ بأشياء، والشيء في كلام العرب‏:‏ الموجودُ، و‏{‏قَدِيرٌ‏}‏‏:‏ اسم فاعل على المبالغةِ، قال القُشَيْرِيُّ‏:‏ وإِن من علم أن مولاه قديرٌ على ما يريد، قَطَعَ رجاءه عن الأغيار؛ كما قال تعالى عن إِبراهيم- عليه السلام-‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ قال أهل الإِشارة‏:‏ معناه‏:‏ سهلت طريقهم إِليك، وقطَعْت رجاءهم عن سواك، ثم قال‏:‏ ‏{‏لِيُقِيمُواْ الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ أي‏:‏ شغلتهم بخدمتك، وأنت أولى بهم، ‏{‏فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تَهْوِي إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏، أي‏:‏ إِذا احتاجوا شيئاً، فذلل عبادك لهم، وأوصل بكرمك رعايتهم إليهم؛ فإِنك على ذلك قديرٌ، وإِن من لزم بابه أوصل إليه محابَّه، وكفاه أسبابه، وذلل لهُ كلَّ صعب، وأورده كلَّ سهل عذبٍ من غير قطعِ شُقَّة، ولا تحمل مشقة انتهى من «التحبير»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ المُلْك السلطانُ، ونفوذُ الأمرِ، والإِرادةِ، وجَمْع الضمير في ‏{‏لَكُمْ‏}‏ دالٌ على أن المراد بخطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم خطابُ أمته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ قال أبو العالية‏:‏ ‏"‏ إِن هذه الآية نزلَتْ حين قال بعض الصحابة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَيْتَ ذُنُوبَنَا جَرَتْ مجرى ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ قَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْراً مِمَّا أعطى بَنِي إِسْرَائِيلَ» ‏"‏، وتَلاَ‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏، وقال ابنُ عَبَّاس‏:‏ سَبَبُهَا أنَّ رافعَ بْنَ حُرَيْمِلَةَ اليهوديَّ سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم تفجيرَ عُيونٍ، وغير ذلك، وقيل غير هذا، وما سئل موسى- عليه السلام- هو أَنْ يرى اللَّه جهرةً‏.‏

وكنى عن الإِعراض عن الإِيمان والإِقبال على الكفر بالتبدُّل، و‏{‏ضَلَّ‏}‏‏:‏ أخطأ الطريق، والسواء مِنْ كل شيءٍ الوسَطُ، والمعظَمُ؛ ومنه‏:‏ ‏{‏فِي سَوَآءِ الجحيم‏}‏ وقال حَسَّانُ بنُ ثابتٍ في رثاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏[‏الكامل‏]‏‏:‏

يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِه *** بَعْدَ المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ

والسبيلُ‏:‏ عبارة عن الشريعة التي أنزلها اللَّه تعالى لعباده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ قال ابنُ عَبَّاس‏:‏ المراد ابنا أَخْطَبَ؛ حُيَيٌّ وأَبُو يَاسِرً، أي‏:‏ وأتباعهما، واختلف في سبب هذه الآيةِ، فقيل‏:‏ إن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، وعَمَّار بْنَ يَاسِرٍ أتيا بَيْتَ المِدْرَاس، فأراد اليهودُ صرْفَهما عن دينهما، فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل‏:‏ إن هذه الآية تابعةٌ في المعنى لما تقدَّم من نَهْيِ اللَّه عزَّ وجلَّ عن متابعة أقوال اليهود في‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ وغيره، وأنهم لا يودُّون أن ينزل على المؤمنين خيْرٌ، ويودُّون أن يردوهم كفاراً من بعد ما تبيَّن لهم الحق، وهو نبوءة محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

* ت *‏:‏ وقد جاءَتْ أحاديث صحيحةٌ في النهيِ عن الحسدِ، فمنْها حديثُ مالكٍ في الموطَّإ عن أنسٍ؛ أن رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهُجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ ‏"‏ وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن الزُّبَيْر، قال‏:‏ قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ‏:‏ الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، حَالِقَتَا الدِّينِ، لاَ حَالِقَتَا الشَّعْرِ ‏"‏ انتهى من «التمهيد»‏.‏

والعَفْوُ‏:‏ تركُ العُقُوبةِ، والصفْح‏:‏ الإِعراض عن المُذْنِبِ؛ كأنَّه يولي صفحة العُنُق، قال ابنُ عَبَّاس‏:‏ هذه الآية منسوخةٌ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ الآيةَ إلى قوله‏:‏ ‏{‏صاغرون‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وقال قوم‏:‏ ليس هذا حدَّ المنسوخِ؛ لأن هذا في نفْس الأمر كان التوقيفَ على مدَّته‏.‏

* ت *‏:‏ وينبغي للمؤمن أَن يتأدَّب بآداب هذه الآية، وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَال‏:‏ ‏"‏ أَلاَ أَدُلُّكُمْ على مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ»‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ «تَحْلُمُ على مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ ‏"‏ خرَّجه النسائيُّ‏.‏ انتهى من «الكوكب الدرِّيِّ» لأبي العبَّاس أحمد بن سعيد التُّجِيبِيِّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏:‏ مقتضاه في هذا الموضِعِ‏:‏ وَعْدٌ للمؤمنين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال الطبريُّ‏:‏ إِنما أمر اللَّه المؤمنين هنا بالصَّلاة والزَّكاة ليحطَّ ما تقدَّم من ميلهم إِلى قول اليهودِ‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏؛ لأنَّ ذلك نَهْيٌ عن نوعه، وقوله‏:‏ ‏{‏تَجِدُوهُ‏}‏، أي‏:‏ تجدوا ثوابه، وروى ابن المبارك في «رَقَائِقِهِ» بسنده قال‏:‏ «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي لاَ أُحِبُّ المَوْتَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَلْ لَكَ مَالٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ فَقَدِّمْ مَالَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ فَإِنَّ المَرْءَ مَعَ مَالِهِ، إِنْ قَدَّمَهُ، أَحَبَّ أَنْ يَلْحَقَهُ، وَإِنْ خَلَفَهُ، أَحَبَّ التَّخَلُّفَ»‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ خبرٌ في اللفظِ، معناه الوعْدُ والوعيدُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 115‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏، معناه‏:‏ قال اليهودُ‏:‏ لن يدخل الجَنَّة إلاَّ مَنْ كان هُوداً، وقال النصارى‏:‏ لن يدخل الجنة إِلا من كان نصارى، فجمع قولهم‏.‏ ودلَّ تفريقُ نوعَيْهم على تفريقِ قولَيْهم، وهذا هو الإِيجازُ واللفُّ‏.‏

و ‏{‏هُودًا‏}‏‏:‏ جمعُ هَائِدٍ، ومعناه‏:‏ التائبُ الراجعُ، وكذَّبهم اللَّه تعالى، وجعل قولهم أمنيَّةً، وأمر نبيَّه- عليه السلام- بدعائهم إِلى إِظهار البُرْهان، وهو الدليلُ الذي يوقع اليقينَ، وقولهم‏:‏ «لَنْ» نفي حسُنت بعده «بلى»؛ إذ هي ردٌّ بالإيجاب في جواب النفي، حرْفٌ مرتَجَلٌ لذلك، و‏{‏أَسْلَمَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ استسلم، وخضَع، ودان، وخص الوجْهَ بالذكْر؛ لكونه أشرف الأعضاء، وفيه يظهر أثر العِزِّ والذُّلِّ، ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏‏:‏ جملة في موضعِ الحالِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ معناه‏:‏ أنه ادعى كلُّ فريقٍ أنه أحقُّ برحمةِ اللَّه من الآخر، وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينةِ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فتسابُّوا، وكَفَرَ اليهودُ بعيسى وبملَّته، وبالإِنجيلِ، وكَفَر النصارى بموسى وبالتَّوراة‏.‏

* ع *‏:‏ وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها؛ لأن الإِنجيلَ يتضمَّن صدْقَ موسى، وتقرير التَّوْراة، والتوراةَ تتضمَّن التبشيرَ بعيسى، وكلاهما يتضمَّن صدْقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعنفهم اللَّه تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلافُ ما قالوا‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب‏}‏ تنبيهٌ لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القُرْآن، والوقوف عند حدوده، والكتَابُ الذي يتلونه، قيل‏:‏ هو التوراةُ والإِنجيل، فالألف واللام للْجِنْسِ، وقيل‏:‏ التوراةِ؛ لأن النصارى تمتثلُها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كفار العَرَبِ؛ لأنهم لا كتابَ لهم، ‏{‏فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ فيثيب من كان على شيءٍ، ويعاقب من كان على غَيْر شيء، ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ، أي‏:‏ لا أحد أظلم من هؤلاء، قال ابنُ عَبَّاس وغيره‏:‏ المراد النصارَى الذين كانِوا يؤذون من يصلِّي ببَيْت المَقْدِسِ، وقال ابن زَيْد‏:‏ المراد كُفَّار قُرَيْش حين صدُّوا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن المسجِدِ الحرامِ، وهذه الآية تتناوَلُ كلَّ من منع من مسجد إِلى يوم القيامة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الايةَ‏:‏ فمن جعل الآية في النصارى، روى أنَّه مَرَّ زمَنٌ بعْد ذلك لا يدخل نصرانيٌّ بيْتَ المَقْدِس إِلا أوجع ضرباً، قاله قتادةُ والسُّدِّيُّ، ومن جعلها في قريش، قال‏:‏ كذلك نودي بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَلاَّ يَحُجَّ مُشْرِكٌ، وَأَلاَّ يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ؛ و‏{‏أَيْنَمَا‏}‏ شرط، و‏{‏تُوَلُّواْ‏}‏ جزمٌ به، و‏{‏ثَمَّ‏}‏‏:‏ جوابه، و‏{‏وَجْهُ الله‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ الذي وجَّهنا إِلَيْه كما تقولُ‏:‏ سافَرْتُ في وجه كذا، أي‏:‏ في جهة كذا، ويتجه في بعض المواضِعِ من القرآن كهذه الآية أن يراد بالوجْهِ الجِهَةُ الَّتي فيها رضَاهُ، وعلَيْها ثوابُه؛ كما تقول تصدَّقت لوجْهِ اللَّهِ، ويتَّجه في هذه الآية خاصَّة أن يراد بالوجه الجهةُ الَّتي وجهنا إليها في القبلة، واختلف في سبب نزولِ هذه الآيةِ، فقال ابنُ عُمَرَ‏:‏ نزلَتْ هذه الآية في صلاة النافلةِ في السفَرِ، حيث توجَّهت بالإِنسان دابَّته، وقال النَّخَعِيُّ‏:‏ الآية عامَّة، أينما تولوا في متصرَّفاتكم ومساعِيكُمْ، فثَمَّ وجْه اللَّه، أي‏:‏ موضع رضاه وثوابه، وجهة رحمته الَّتي يوصِّل إِليها بالطاعة، وقال عبد اللَّه بن عامِرِ بنِ ربيعَةَ‏:‏ نَزَلَتْ فيمن اجتهد في القبلة، فأخطأ، ووَرَدَ في ذلكَ حديثٌ رواه عامرُ بْنُ رَبِيعَةَ، قال‏:‏ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فتحرى قَوْمٌ الْقِبْلَةَ، وأَعْلَمُوا عَلاَمَاتً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوهَا، فَعَرَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَنَزلَت هَذِهِ الآية»‏.‏

وقيلَ‏:‏ نزلت الآية حين صُدَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن البَيْتِ‏.‏

و ‏{‏واسع‏}‏‏:‏ معناه مُتَّسِعُ الرحمة، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ أين يضعها، وقيل‏:‏ ‏{‏واسع‏}‏‏:‏ معناه هنا أنه يوسِّع على عباده في الحُكْم دينُهُ يُسْرٌ، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بالنيَّات التي هي ملاكُ العمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سبحانه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ اختلف على مَنْ يعود ضميرُ «قَالُوا»، فقيل‏:‏ على النصارى، وهو الأشبه، وقيل‏:‏ على اليهود؛ لأنهم قالوا‏:‏ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، وقيل‏:‏ على كفرة العربِ؛ لأنهم قالوا‏:‏ الملائكة بنَاتُ اللَّه‏.‏

* ت *‏:‏ وقال أبو عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ‏:‏ ويحتمل أن يعني بالآية كلُّ من تقدَّم ذكره من الكفرة، وقد تقدَّم ذكر اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، وهم المشركون، وكلُّهم قد ادعى للَّه ولداً، تعالى اللَّه عن قولهم‏.‏ انتهى من «مختصر الطبريِّ»‏.‏

و ‏{‏سبحانه‏}‏‏:‏ مصدر، معناه‏:‏ تنزيهاً له وتبرئةً مما قالوا، والقُنُوتُ؛ في اللغة‏:‏ الطاعةُ، والقنوتُ‏:‏ طول القيام، فمعنى الآية‏:‏ إن المخلوقات تقنُتُ للَّه، أي‏:‏ تخشع، وتطيع، والكفار قنوتُهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل‏:‏ الكافر يسجد ظلُّه، وهو كارهٌ، و‏{‏بَدِيعُ‏}‏‏:‏ مصروفٌ من مُبْدعٍ، والمُبْدِعُ‏:‏ المخترعُ المنشيءُ، وخص السَّموات والأرضَ بالذكْر؛ لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جلَّ وعلاَ‏.‏

و ‏{‏قَضَى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قدَّر، وقد يجيء بمعنى‏:‏ أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنَيَانِ، والأمر‏:‏ واحد الأمور، وليس هو هنا بمصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وتلخيص المعتَقَدِ في هذه الآية؛ أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودِهَا، قادراً مع تأخُّر المقدورات، عالماً مع تأخُّر وقوع المعلوماتِ، فكلُّ ما في الآية ممَّا يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأموراتِ إِذ المحدَثَاتُ تجيء بعد أنْ لم تكنْ، وكل ما يستند إِلى اللَّه تعالى من قدرةٍ وعلمٍ وأمر، فهو قديمٌ لم يزَلْ، والمعنى الَّذي تقتضيه عبارةُ ‏{‏كُن‏}‏ هو قديمٌ قائمٌ بالذاتِ، والوضوح التامُّ في هذه المسألة ‏[‏لا‏]‏ يحتاج أكثر من هذا البَسْط‏.‏

* ت *‏:‏ وقد قدَّمنا ما يزيدُ هذا المعنى وضُوحاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ فانظره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال الربيعُ والسُّدِّيَّ‏:‏ هم كفار العرب، وقد طلب عبد اللَّه بن أمية وغيره من النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وقال مجاهدٌ‏:‏ هم النصارى، وقال ابن عباس‏:‏ المراد من كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من اليهود؛ لأنَّ رافع بن حُرَيْمِلَةَ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَسْمِعْنَا كَلاَمَ اللَّهِ، وقيل‏:‏ الإشارة إلى جميع هذه الطوائف؛ لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، و‏{‏لَوْلاَ‏}‏ تحضيضٌ بمعنى «هَلاَّ»، والآية هنا العلامة الدالَّة، و‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ هم اليهودُ والنصارى في قول من جعل ‏{‏الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ كفَّارَ العرب، وهم اليهودُ في قول مَنْ جعل ‏{‏الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ النصارَى، وهم الأمم السالفة في قول من جعل ‏{‏الذين لاَ يَعْلَمُون‏}‏ العربَ النصارى واليهُودَ وتشابه القلوب هنا في طَلَب ما لا يَصِحُّ أوفى الكفر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينةٌ أخرى أنَّ الكلام مدْحٌ لهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا‏}‏، أي‏:‏ لمن آمن، ونذيراً لمن كفر، وقرأ نافع وحده ولا تسأل، أي‏:‏ لا تسأل عن شدَّة عذابهم؛ كما تقول‏:‏ فلانٌ لا تَسْأَلْ عَنْه، تعني أنه في نهاية تشهره من خيْرٍ أو شرٍّ‏.‏

* ت *‏:‏ وزاد في «مختصر الطبرِّي»، قال‏:‏ وتحتمل هذه القراءة معنى آخر، وهو، واللَّه أعلم، أظهر، أي‏:‏ ولا تسأل عنهم سؤالَ مكْتَرِثٍ بما أصابهم، أو بما هم عليه من الكُفْر الذي يوردهم الجحيمَ؛ نظيرَ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏، وأما ما روي عن محمَّد بن كعب القُرَظِيِّ ومن وافقه؛ من أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ، مَا فَعَلَ أَبَوَايَ‏؟‏ فنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك، فهو بعيدٌ، ولا يتصل أيضاً بمعنى مَا قبله‏.‏ انتهى‏.‏

وقرأ باقي السبعة‏:‏ «وَلاَ تُسْأَلُ»؛ بضم التاء واللام‏.‏

و ‏{‏الجَحِيمِ‏}‏‏:‏ إحدى طبقات النار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى‏}‏، أي‏:‏ ما أنت عليه يا محمَّد من هدى اللَّه هو الهدَى الحقيقيُّ، لا ما يدعيه هؤلاء، ثم قال تعالى لنبيِّه‏:‏ ‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الذي جَاءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ فهذا شرط خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمته معه داخلةٌ فيه‏.‏

* ت *‏:‏ والأدب أن يقال‏:‏ خُوطِبَ به صلى الله عليه وسلم والمراد أُمَّتُهُ؛ لوجودِ عصمته صلى الله عليه وسلم وكذلك الجواب في سائر ما أشبه هذا المعنى من الآيِ، وقد نبَّه- رحمه اللَّه- على هذا المعنى في نظيرتها؛ كما سيأتي، وكان الأولى؛ أن ينبِّه على ذلك هنا أيضاً، وقد أجاب عِيَاضٌ عن الآيِ الواردةِ في القرآن ممَّا يوهمُ ظاهره إِشكالاً، فقال- رحمه اللَّه-‏:‏ اعلم، وفَّقنا اللَّه وإياك، أنه- عليه السلام- لا يصحُّ ولا يجوز علَيْه ألاَّ يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يتقوَّل على اللَّه ما لا يجبُ أو يفترى عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يطيع الكافرين، لكن اللَّه أمره بالمكاشفةِ والبيان في البلاغ للمخالِفِينَ، وإن إِبلاغه، إِنْ لم يكُنْ بهذا البيان فكأنه ما بلَّغ، وطيَّب نفسه، وقوَّى قلبه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ كما قال لموسى وهارون- عليها السلام‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَافَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ لتشتد بصائرهم في الإِبلاغ وإِظهار دين اللَّهِ، ويذهب عنهمْ خَوْفُ العدوِّ المضعف لليقين، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44‏]‏ وقوله ‏{‏إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 75‏]‏ فمعناه‏:‏ أنَّ هذا هو جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعله، وكذلك قوله تعالَى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 116‏]‏ فالمراد غيره، كما قال‏:‏ ‏{‏إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 149‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 24‏]‏ و‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ وما أشبهه، فالمراد غيره، وأن هذا حال مَنْ أشرك، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَجُوزُ عليه هذا، وقوله تعالَى ‏{‏ا‏:‏ &1649

‏;‏تق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ فليس فيه أنه أطاعهم، واللَّه يَنْهَاهُ عما يشاء، ويأمره بما يشاء؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ الآية، وما كان طَرَدَهُمْ- عليه السلام- ولا كَانَ من الظالمين‏.‏ انتهى من «الشِّفَا»‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏وَلَئِنِ‏}‏‏:‏ هذه اللام هي الموطِّئة والموذنةُ، وهي مشعرةٌ بِقَسَمٍ مقدَّر قبلها‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 124‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَتْلُونَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال قتادة‏:‏ المراد ب «الَّذِينَ» في هذا الموضع‏:‏ مَنْ أَسْلَمَ من أمَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والكتابُ على هذا‏:‏ التأويل القرآن، وقال ابنُ زَيْد‏:‏ المراد مَنْ أسلم من بني إِسرائيل، والكِتَابُ؛ على هذا التأويلِ‏:‏ التوراةُ، و‏{‏ءاتيناهم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أعطيناهم، و‏{‏يَتْلُونَهُ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يتبعونه حقَّ اتباعه بامتثال الأمر والنهي، قال أحمد بن نَصْر الدَّاوُودِيُّ‏:‏ وهذا قول ابن عباس، قال عِكْرِمَةُ‏:‏ يقال‏:‏ فلانٌ يتلو فلاناً، أي‏:‏ يتبعه؛ ومنه‏:‏ ‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ تبعها‏.‏ انتهى‏.‏

وللَّه دَرُّ مَنِ اتبع كلامَ ربِّهِ، واقتفى سُنَّة نبيِّه، وإِن قلَّ عِلْمُهُ، قال القُضَاعِيُّ في اختصاره لِ «المدارك»‏:‏ قال في ترجمة سُحْنُون‏:‏ كان سُحْنُون يقول‏:‏ مَثَلُ العلْمِ القليلِ في الرجُلِ الصالحِ مَثَلُ العَيْنِ العَذْبَةِ في الأرض العَذْبة، يزرع علَيْها صاحبُها ما ينتفعُ به، ومَثَلُ العلْمِ الكثيرِ في الرجُلِ الطالحِ مَثَلُ العَيْن الخَرَّارة في السَّبِخَةِ تهرُّ الليلَ والنَّهارَ، ولا ينتفعُ بها‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَهُ‏}‏‏:‏ يقرءونه حقَّ قراءته، وهذا أيضاً يتضمَّن الاِتّباع والاِمتثالَ، و‏{‏حَقَّ‏}‏‏:‏ مصدرٌ، وهو بمعنَى أفْعل، والضمير في «بِهِ» عائدٌ على «الكتاب»، وقيل‏:‏ يعود على محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأن مُتَّبِعِي التوراةِ يجدُونه فيها، فيؤمنون به، والضميرُ في ‏{‏يَكْفُرْ بِهِ‏}‏ يحتمل من العود ما ذكر في الأول‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يابَنِى إسراءيل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ تقدَّم بيان نظيرها، ومعنى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة‏}‏‏:‏ أنه ليستْ ثَمَّ، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحَدَّ، فيردّ، وأما الشفاعةُ التي هي في تعجيلِ الحسَابِ، فليستْ بنافعة لهؤلاءِ الكَفَرة‏.‏

* ت *‏:‏ ولم ينبِّه- رحمه اللَّه- على هذا في التي تقدَّمت أولَ السورة، و‏{‏ابتلى‏}‏ معناه‏:‏ اختبر، وفي «مختَصَرِ الطَّبريِّ»‏:‏ ‏{‏ابتلى‏}‏، أي‏:‏ اختبر، والاختبارُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لعباده على علْمٍ منه سبحانه بباطِنِ أمرهم وظاهره، وإنما يبتليهم ليظهر منهم سابقُ علمه فيهم، وقد روي ذلك عن عليٍّ- رضي اللَّه عنه- في قوله عز وجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أخباركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏ فقال رضي اللَّه عنه‏:‏ إِن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يزلْ عالماً بأخبارِهِمْ وخُبْرِهِمْ وما هُمْ عليه، وإن قوله‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ‏}‏، أي‏:‏ حتى نسوقَكُم إِلى سابقِ علْمِي فيكم‏.‏ انتهى، وهو كلام حسنٌ‏.‏

وقد نبه * ع *‏:‏ على هذا المعنى فيما يأتي، والعقيدةُ أنَّ علمه سبحانه قديمٌ، عَلِمَ كلَّ شيء قبْلَ كونه، فجرى على قَدَرِهِ لا يكون من عباده قولٌ ولا عملٌ إلا وقد قضاه، وسبق علمه به سبحانه لا إله إلا هو‏.‏

و ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏:‏ يقال‏:‏ إِنَّ تفسيره بالعربيَّةِ أَبٌ رَحِيمٌ، واختلف أهل التأويل في «الكلمات»، فقال ابن عَبَّاس‏:‏ هي ثلاثُونَ سَهْماً هي الإسلام كلُّه، لم يتمَّه أحدٌ كاملاً إلا إبراهيمُ- عليه السلام- منْها في «براءة»‏:‏

‏{‏التائبون العابدون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏، وعشرة في «الأحزاب»‏:‏ ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏، وعَشَرة في ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏‏.‏

* ت *‏:‏ وقيل غير هذا‏.‏

وفي «البخاريِّ»‏:‏ أنه اختتن، وهو ابن ثمانينَ سنَةً بالقَدُومِ، قال الراوي‏:‏ فأوحى اللَّه إليه ‏{‏إِنِّي جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ والإِمام القُدْوة‏.‏

وإِنما سمِّيت هذه الخصالُ كلماتٍ؛ لأنها اقترنتْ بها أوامر هي كلمات، وروي أن إبراهيم، لما أتمَّ هذه الكلماتِ أو أتمَّها اللَّه عليه، كتب اللَّه له البراءة من النَّار، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِي‏}‏ هو على جهةِ الرغباءِ إلى اللَّه، أي‏:‏ ومن ذريتي، يا ربِّ، فاجعل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏، أي‏:‏ قال اللَّه، والعهد فيما قال مجاهد‏:‏ الإِمامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 126‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا البيت‏}‏، أي‏:‏ الكعبة ‏{‏مَثَابَةً‏}‏، يحتملُ مِنْ ثَابَ إِذا رجع، ويحتمل أن تكون من الثواب، أي‏:‏ يثابون هناك، «وَأَمْناً» للناسِ والطيرِ والوُحُوشِ؛ إذ جعل اللَّه لها حرمةً في النفوس؛ بحيث يَلْقَى الرجُلُ بها قاتِلَ أبيه، فلا يهيجه، وقَرَأَ جمهور الناس‏:‏ «واتخذوا»، بكسر الخاء؛ على جهة الأمر لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، «واتخذوا» بفتح الخاء؛ على جهة الخبر عن مَنِ اتخذه مِنْ متبعي إبراهيم- عليه السلام- ومقام إبراهيم في قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وغيرهما، وخرَّجه البُخَارِيُّ هو الحَجَر الذي ارتفع عليه إِبراهيم حينَ ضَعُف عن رفْع الحجارةِ الَّتي كان إِسماعيلُ يناوله إِياها في بنَاء البَيْت، وغَرِقَتْ قدماه فيه، و‏{‏مُصَلًّى‏}‏‏:‏ موضع صلاة‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏مِن مَّقَامِ‏}‏‏:‏ مِنْ تبعيضيةٌ على الأظهر، أو بمعنى‏:‏ «في» أو زائدة؛ على مذهب الأخفش، والمقامُ‏:‏ مَفْعَلٌ من القيامِ، والمراد به هنا المكانُ، انتهى، يعني‏:‏ المكانَ الذي فيه الحَجَر المسمى بالمقام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَهِدْنَا‏}‏‏:‏ العَهْدُ؛ في اللغة‏:‏ على أقسام، هذا منها، الوصية بمعنى الأمر، و‏{‏طَهِّرَا‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ ابنياه وأسِّساه على طَهَارَةٍ ونيَّةِ طَهَارَةٍ، وقال مجاهدٌ‏:‏ هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، و‏{‏لِلطَّائِفِينَ‏}‏ ظاهره‏:‏ أهل الطوافِ، وَقَالَهُ عطاء وغيره، وقال ابن جُبَيْر‏:‏ معناه‏:‏ للغرباءِ الطارئِينَ على مكَّة، ‏{‏والعاكفين‏}‏‏:‏ قال ابن جُبَيْر‏:‏ هم أهل البلد المقيمُونَ، وقال عطاء‏:‏ هم المجاورُونَ بمكَّة، وقال ابنُ عبَّاس‏:‏ المصَلُّون، وقال غيره؛ المعتكفُونَ، والعكُوف؛ في اللغة‏:‏ الملازمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا‏}‏، أيْ‏:‏ من الجبابرة والعدُوِّ المستأصل، وروي أن اللَّه تعالى، لما دعاه إِبراهيم، أمر جبريل، فاقتلع فِلَسْطِينَ، وقيل‏:‏ بقعة من الأرْدُنِّ، فطاف بها حَوْلَ البيتِ سبْعاً، وأنزلها بِوَج، فسمِّيت الطَّائِفَ؛ بسبب الطواف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال أبيُّ بن كَعْب، وابن إسحاقَ، وغيرهما‏:‏ هذا القَوْلُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لإِبراهيم، وقال ابنُ عَبَّاس، وغيره‏:‏ هذا القول من إِبراهيم‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ فكأنَّ إِبراهيم دعا للمؤمنين، وعلى الكافرين، وفي «مختصر الطبريِّ»‏:‏ وقرأ بعضهم، «فأُمْتِعْهُ»؛ بالجزم، والقَطْع على الدعاء، ورآه دعاءً من إِبراهيم، وروي ذلك عن أبي العالية، كان ابنُ عبَّاس يقول‏:‏ ذلك قولُ إبراهيم، سأل ربَّه أنَّ من كَفَر به، فأمتعه قليلاً يقول‏:‏ فارزقه قليلاً، ثم اضطره إِلى عذاب النارِ، أي‏:‏ أَلْجِئْهُ‏.‏ انتهى، وعلى هذِهِ القراءةِ يجيءُ قولُ ابن عبَّاس، لا على قراءة الجمهور، و‏{‏قَلِيلاً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ مُدَّة العُمُر؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ القواعدُ‏:‏ جمع قاعدةٍ، وهي الأساس‏.‏

* ص *‏:‏ القواعدُ، قال الكسائيُّ والفَرَّاء‏:‏ هي الجُدُر، وقال أبو عُبَيْدة‏:‏ هي الأساس‏.‏ انتهى‏.‏

واختلفوا في قصص البَيْت، فقيل‏:‏ إِن آدم أمر بِبِنَائِهِ، ثم دثر، ودرس حتى دلَّ عليه إبراهيم، فرفع قواعده، وقيل‏:‏ إِن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر اللَّه، وقيل غير هذا‏.‏

* ع *‏:‏ والذي يصحُّ من هذا كلِّه أن اللَّه سبحانه أمر إبراهيمَ برَفْعِ قواعدِ البيتِ، وجَائِزٌ قِدَمُهُ، وجَائز أن يكون ذلك ابتداءً، ولا يرجح شيء من ذلك إِلا بسند يقطع العُذْر‏.‏

‏{‏وإسماعيل‏}‏‏:‏ عطْفٌ على ‏{‏إِبْرَاهِيمُ‏}‏، والتقديرُ‏:‏ يقولاَنِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم‏}‏، أي‏:‏ السميع لدعائنا، العليمُ بنيَّاتنا، وخصَّا هاتين الصفتين؛ لتناسبهما مع حالهما، وقولهما‏:‏ ‏{‏اجْعَلْنَا‏}‏ بمعنى‏:‏ صيِّرنا مُسْلِمَيْن، وكذلك كانا، وإنما أرادا التثبيتَ والدوامَ، والإِسلام في هذا الموضعِ‏.‏ الإِيمانُ والأعمالُ جميعاً، «ومِنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِنَا‏}‏ للتبعيض؛ لأن اللَّه تعالى قد كان أعلمه أنَّ منهم ظالمين، والأُمَّة‏:‏ الجماعةُ، ‏{‏وَأَرِنَا‏}‏ قالتْ طائفةٌ‏:‏ من رؤية البصَرِ، وقالت طائفةٌ‏:‏ من رؤية القلبِ، وهذا لا يصحُّ، قال قتادة‏:‏ المناسكُ معالم الحجِّ، واختلف في معنى طلبهم التوبةَ، وهم أنبياء معصومُونَ، فقالتْ طائفةٌ‏:‏ طلبا التثْبيتَ والدوامَ، وقيل‏:‏ أرادا من بعدهما مِنَ الذُّرِّيَّة، وقيل، وهو الأحسن؛ إِنهما لما عرفا المناسكَ، وبنيا البيتَ، أرادا أن يسنا للناس؛ أنَّ تلك المواطنَ مكانُ التنصُّل من الذنوبِ، وطلبِ التوبة‏.‏

وقال الطبريُّ‏:‏ إِنه ليس أحد من خلق اللَّه إِلا بينه وبين اللَّه معانٍ يحب أنْ تكون أحسن ممَّا هي، وأجمعت الأمة على عصْمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر الَّتي فيها رذيلةٌ، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومُونَ من الجميع، وأنَّ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنِّي لأَتُوبُ فِي اليَوْمِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ سَبْعِينَ مَرَّةً ‏"‏، إِنَّما هُوَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إلى أَرْفَعَ مِنْهَا؛ لِتَزَيُّدِ علومه، وإطلاعه على أمر ربه، فهو يتوب من منزلة إلى أعلى، والتوبةُ هنا لُغَوِيَّةٌ، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا هو الذي أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏"‏ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وبشرى عيسى ‏"‏، ومعنى ‏{‏مِّنْهُمْ‏}‏، أي‏:‏ يعرفُوهُ، ويتحقَّقوا فضلَه، ويشفق عليهم، ويحرص‏.‏

* ت *‏:‏ وقد تواتَرَتْ أخبار نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وبعثته في الكتب السالفة، وعَلِمَ بذلك الأحْبارُ، وأخبروا به، وبتعيين الزَّمَن الذي يبعث فيه‏.‏

وقد روى البيهقيُّ أحمد بن الحُسَيْن وغيره عن طلحة بن عُبَيْد اللَّه- رضي اللَّه عنه- قَالَ‏:‏ «حَضَرْتُ سُوقَ بصرى، فَإِذَا رَاهِبٌ في صومعة، يقول‏:‏ سَلُوا أَهْلَ هَذَا المَوْسِمِ، أفيهِمْ مَنْ هو مِنْ هذا الحَرَمِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ أَنَا، فما تَشَاءُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ومَنْ أَحْمَدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أحمدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إلى نَخْلٍ وَسِبَاخٍ، إِذَا كَانَ، فَلاَ تُسْبَقَنَّ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، وَأَسْرَعْتُ اللَّحَاق بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتَ، هَلْ ظَهَرَ بَعْدِي أَمْرٌ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ مُحَمَّدٌ الأُمِّيُّ قَدْ تَنَبَّأَ، وَتَبِعَهُ أبو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ، فَمَشَيْتُ إلى أَبِي بَكْرٍ، وَأَدْخَلَنِي إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمْتُ»، وقد روى العُذْرِيُّ وغيره عن أبي بكر- رضي اللَّه عنه- أنَّه قَالَ‏:‏ «لقيتُ شيخاً باليمن، فقال لي‏:‏ أنْتَ حَرَمِيٌّ، فقلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ وأحسبكَ قُرَشِيًّا، قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ بَقِيَتْ لِي فيكَ واحدةٌ، اكشف لي عن بَطْنك، قُلْتُ‏:‏ لا أفعل، أو تخبرني لِمَ ذلك، قال‏:‏ أجدُ في العلْمِ الصحيحِ أن نبيًّا يبعثُ في الحرمين يقارنه على أمره فتًى وكَهْل، أمَّا الفتى، فخوَّاض غمراتٍ، ودفَّاع مُعْضِلاَتٍ، وأما الكَهْل، فأبيضُ نحيفٌ على بطنه شَامَةٌ، وعلى فَخِذِهِ اليسرى علامةٌ، وما عليك أنْ تريني ما سألتُكَ عَنْه، فقد تكامَلَتْ فيك الصِّفَةُ، إِلا ما خَفِيَ علَيَّ‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ فكَشَفْتُ له عَنْ بطني، فرأى شامَةً سوداء فوق سُرَّتي، فقالَ‏:‏ أَنْتَ هو وربِّ الكعبة، إِني متقدِّم إِليك في أمْرٍ، قُلْتُ‏:‏ مَا هُوَ‏؟‏ قال‏:‏ إِيَّاكَ، والمَيْلَ عن الهدى، وعليك بالتمسُّك بالطريقةِ الوسطى، وخَفِ اللَّه فيما خَوَّلَكَ، وأعطى، قال أبو بكر‏:‏ فلمَّا ودعتُهُ، قال‏:‏ أَتَحْمِلُ عنِّي إِلى ذلك النبيِّ أبياتاً، قلت‏:‏ نعم، فأنشأ الشيخ يَقُولُ‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَلَمْ تَرَ أَنِّي قَدْ سَئِمْتُ مُعَاشِرِي *** وَنَفْسِي وَقَدْ أَصْبَحْتُ فِي الحَيِّ عَاهِنَا

حَيِيتُ وَفِي الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ عِبْرَةٌ *** ثَلاَثَ مِئينَ بَعْدَ تِسْعِينَ آمِنَا

وَقَدْ خَمَدَتْ مِنِّي شَرَارَةُ قُوَّتِي *** وَأُلْفِيتُ شَيْخاً لاَ أُطِيقُ الشِّوَاحِنَا

وَأَنْتَ وَرَبِّ الَبْيتِ تَأْتِي مُحَمَّداً *** لِعَامِكَ هَذَا قَدْ أَقَامَ البَرَاهِنَا

فَحَيِّ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي فَإِنَّنِي *** على دِينِهِ أَحْيَا وَإِنْ كُنْتُ قَاطِنَا

قال أبو بكر‏:‏ فحفظْتُ شعره، وقَدِمْتُ مكَّة، وقد بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجاءني صناديد قُرَيْشٍ، وقالوا‏:‏ يا أبا بكْرٍ، يتيمُ أَبِي طالِبٍ، يَزْعُم أنه نبيٌّ، قال‏:‏ فجئْتُ إلى منزلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقرعْتُ علَيْه، فخرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، فُقِدْتَ مِنْ مَنَازِلِ قَوْمِكَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَآمِنْ بِاللَّهِ، فَقُلْتُ؛ وَمَا دَلِيلُكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الشَّيْخُ الَّراهِبُ الَّذِي لَقِيتَهُ بِاليَمَنِ، قُلْتُ‏:‏ وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ لَقِيتُ‏!‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ ذَلِكَ أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الشَّيْخَ الَّذِي أَفَادَكَ الأَبْيَاتَ، قُلْتُ‏:‏ وَمَنْ أَخْبَرَكَ بِهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ الرُّوحُ الأمِينُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الأَنْبِيَاءَ قَبْلِي، قُلْتُ‏:‏ مُدَّ يَمِينَكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فانصرفت وَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرَحاً بِإِسْلاَمِي»‏.‏

انتهى من تأليف ابن القَطَّان في «الآياتِ والمعجزاتِ»‏.‏

و ‏{‏يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك‏}‏، أي‏:‏ آيات القُرآن، و‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القرآن، قال قتادة‏:‏ ‏{‏والحكمة‏}‏ السنة، وروى ابن وهْب عن مالكٍ؛ أن ‏{‏الحكمة‏}‏‏:‏ الفقْهُ في الدين، والفهم الذي هو سجيَّة ونور من اللَّه تعالى‏.‏

* ت *‏:‏ ونقل عِيَاضٌ في «مداركه» عن مالك؛ أن ‏{‏الحكمة‏}‏ نورٌ يقذفه اللَّه في قلب العبد، وقال أيضاً‏:‏ يقع في قلبي؛ أنَّ ‏{‏الحكمة‏}‏ الفقْهُ في دين اللَّه، وأمر يدخلُه اللَّه القلُوبَ من رحمته وفَضْله، وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ التفكُّر في أمر اللَّه، والاتِّباعُ له، والفقْه في الدِّين، والعمل به‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أشار * ع *‏:‏ إلى هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَة مَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏‏.‏

* ت *‏:‏ والظاهر أن المراد ب ‏{‏الحكمة‏}‏ هنا‏:‏ ما قاله قتادة، فتأمَّله‏.‏

‏{‏وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏‏:‏ معناه يطَهِّرهم، وينمِّيهم بالخَيْر، و‏{‏العزيز‏}‏‏:‏ الَّذي يغلب، ويتم مراده، و‏{‏الحكيم‏}‏‏:‏ المصيبُ مواقعَ الفعْلِ، المُحْكِمُ لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 133‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبراهيم‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏"‏ «مَن»‏:‏ استفهام، والمعنى‏:‏ ومَنْ يزهد فيها، ويربأ بنفسه عنها إِلا مَنْ سفه نفسه، والملَّة‏:‏ الشريعة والطريقَةُ، وسَفِهَ من السَّفَه الَّذي معناه الرِّقَّة والْخِفَّة، واصطفى من الصَّفْوَة، معناه‏:‏ تخيَّر الأصفى، ومعنى هذا الاِصطفاءِ؛ أنه نبأه، واتَّخذه خليلاً‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ المعنى أنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضافٍ، ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ‏}‏ كان هذا القول من اللَّه تعالى حين ابتلاه بالكوكبِ والقمرِ والشمس؛ والإِسلامُ هنا على أتمِّ وجوهِهِ، والضميرُ في «بِهَا» عائدٌ على كلمته التي هي ‏{‏أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين‏}‏، وقيلَ‏:‏ على الملة، والأول أصوبُ؛ لأنه أقرب مذكور‏.‏

‏{‏وَيَعْقُوبُ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ عطْفٌ على ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏، وقيل‏:‏ مقطوعٌ منفردٌ بقوله‏:‏ ‏{‏يَا بَنِيَّ‏}‏، والتقدير‏:‏ ويعقوب قال‏:‏ يا بَنِيَّ‏.‏

و ‏{‏اصطفى‏}‏ هنا‏:‏ معناه‏:‏ تخيَّر صفوةَ الأديان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏‏:‏ إِيجاز بليغ، وذلك أنَّ المقصود من أمرهم بالإِسلام الدوامُ علَيْه، فأتى بلفظ موجَزٍ يقتضي المقصودَ، ويتضمَّن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقَّق أنه يموت، ولا يدري متى، فإِذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إِلاَّ وهو عليه، فقد توجَّه من وقت الأمر دائباً لازماً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت‏}‏ هذا الخطابُ لليهودِ والنصارَى الذين انتحلوا الأنبياءَ- صلوات اللَّه عليهم- ونَسَبوهم إِلَى اليهوديَّة والنصرانية، فردَّ اللَّه عليهم وكذَّبهم، وأعلمهم أنهم كانُوا على الحنيفيَّة الإِسلامِ، وقال لهم على جهة التقريرِ والتوبيخ‏:‏ أَشهدتُّمْ يعقوبَ بما أوصى، فتدَّعُونَ عنْ علْمٍ أَم لم تشهدوا، بل أنتم تفترُونَ، «وأم»‏:‏ للاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَةٌ، وحكى الطبريُّ أنَّ «أَمْ» يستفهم بها في وسط كلامٍ قد تقدَّمَ صدره، وهذا منه، و‏{‏شُهَدَاءَ‏}‏‏:‏ جمع شاهدٍ، أي‏:‏ حاضر، ومعنى الآية؛ حضر يعقوبَ مقدِّماتُ الموت‏.‏

و ‏{‏مِن بَعْدِي‏}‏، أي‏:‏ من بَعْدِ مَوْتِي، ودخل إِسماعيل في الآباء لأنه عَمَّ‏.‏

‏"‏ وقد أطلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم على العَبَّاس اسم الأب، فقال‏:‏ «هذا بقية آبائي»، وقال‏:‏ «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي» ‏"‏ الحَدِيثَ، وقال‏:‏ ‏"‏ أَنَا ابن الذِّبِيحَيْنِ ‏"‏، على القول الشهيرِ في أنَّ إِسحاق هو الذبيحُ‏.‏

* ت *‏:‏ وفي تشهيره نظَرٌ، بل الراجحُ أنه إِسماعيل على ما هو معلومٌ في موضعه، وسيأتي إِنْ شاء اللَّه تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 138‏]‏

‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يعني بالأُمَّةِ الأنبياءَ المذكورينَ، والمخاطَبُ في هذه الآية اليهودُ والنصارى، وقولهم‏:‏ ‏{‏كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ‏}‏ نظير قولهم‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏، والحنيف في الدين‏:‏ الذي مال عن الأديان المكروهة إِلى الحقِّ، ويجيء الحنيفُ في الدين بمعنى المستقيمِ على جميع طاعاتِ اللَّهِ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّون مِن رَّبِّهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا الخطابُ لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا‏}‏‏:‏ يعني القُرْآن، و‏{‏الأَسْبَاطِ‏}‏ هم ولَدُ يعقوبَ، وهم‏:‏ رُوبِيل، وشَمْعُون، ولاَوي، ويَهُوذَا، وريالُون، ويشحر، ودنية بنته، وأمهم ليا، ثم خَلَف على أختها رَاحِيل، فولَدَتْ له يوسُفَ، وبِنْ يَامِين، ووُلِدَ له من سُرِّيَّتَيْنِ‏:‏ ذان، وتفثالا، وجاد، واشر‏.‏

والسِّبْطُ في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسُمُّوا الأسباط؛ لأنه كان من كل واحدٍ منهم سِبْطٌ‏.‏

وَ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ‏}‏، أي‏:‏ لا نؤمن ببعضٍ، ونكْفُر ببعض؛ كما تفعلون، ‏{‏فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُمْ بِهِ‏}‏، أيْ‏:‏ فإن صَدَّقوا تصديقاً مثْلَ تصديقكم، ‏{‏فَقَدِ اهْتَدَواْ، وَّإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏، أي‏:‏ أعرضوا، يعني‏:‏ اليهودَ والنصارى، ‏{‏فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ‏}‏، أي‏:‏ في مشاقَّةٍ ومخالفةٍ لَكَ، هم في شِقٍّ، وأنت في شِقٍّ، وقيل‏:‏ شَاقَّ معناه‏:‏ شَقَّ كل واحدٍ وصل ما بينَه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إِياهم، ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قَتْل بني قَيْنُقَاعَ، وبني قريظة، وإِجلاء النَّضِير‏.‏

وهذا الوَعْدُ وانتجازه من أعلام نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

و ‏{‏السميع‏}‏ لقولِ كل قائلٍ، و‏{‏العليم‏}‏ بما ينفذه في عبادِهِ، و‏{‏صِبْغَةَ الله‏}‏‏:‏ شريعتُهُ ودينُهُ وسنَّته، وفطْرته، قال كَثِيرٌ من المفسِّرين‏:‏ وذلك أن النصارى لهم ماءٌ يصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك، وقيل‏:‏ سمي الدِّين صبغةً؛ استعارةً من حيث تظهر أعْمَالُهُ وسِمَتُهُ على المتدِّين؛ كما يظهر الصِّبْغ في الثَّوْب وغيره، ونصب الصِّبْغة على الإِغراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 141‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ معنى الآية‏:‏ قل يا محمَّد لهؤلاءِ اليهودِ والنصارى‏:‏ أتحاجُّوننا في اللَّه، أي‏:‏ أتجادلونَنَا في دِينِهِ، والقُرْب منه، والحُظْوة لديه سُبْحانه، والرب واحدٌ، وكلٌّ مجازًى بعمله، ثم وبَّخهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ‏}‏، أي‏:‏ ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدَّعون ما نَحْن أولى به منْكُمْ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ تَقُولُونَ‏}‏ عطْفٌ على ألف الاستفهامِ المتقدِّمة، وهذه القراءة بالتاء من فوقُ قراءةُ ابن عامر، وحمزةَ، وغيرهما، وقرأ نافعٌ وغيره بالياء من أسفل، «وأَمْ» على هذه القراءةِ مقطوعةٌ، ووقفهم تعالى على موضعِ الإنقطاعِ في الحُجَّة؛ لأنهم إِنْ قالوا‏:‏ إنَّ الأنبياء المذكُورين على اليهوديَّة والنصرانية، كَذَبوا؛ لأنه قد عُلِمَ أن هذين الدينَيْن حَدَثَا بعدهم، وإِن قالوا‏:‏ لم يكونوا على اليهودية والنصرانية، قيل لهم‏:‏ فهلُمُّوا إِلى دينهم؛ إِذ تقرُّون بالحق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله‏}‏ تقريرٌ على فساد دعواهم؛ إذ لا جواب لمفطورٍ إلا أن اللَّه تعالى أعلم، ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شهادة‏}‏، أيْ‏:‏ لا أحد أظلم منه، وإياهم أراد تعالى بكتمانِ الشهادةِ، قال مجاهد وغيره‏:‏ فالذي كتموه هو ما في كتبِهِمْ مِنْ أنَّ الأنبياء على الحنيفيَّة، لا على ما ادعوه، وقال قتادةُ وغيره‏:‏ هو ما عندهم من الأمر بتصديق النبيِّ صلى الله عليه وسلم والأولُ أشبه بسياقِ الآيةِ، «ومِن» متعلِّقةٌ ب «عِنْده»، ويحتمل أن تتعلق ب «كَتَمَ»‏.‏

‏{‏وَمَا الله بغافل‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ فيه وعيد وإِعلام؛ أنه لا يترك أمرهم سدًى، والغافل‏:‏ الذي لا يفطنُ للأمور إهْمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغُفْلِ، وهي التي لا مَعْلَمَ بها‏.‏

وقوله تعالى؛ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ‏}‏ الآية‏:‏ كرَّرها عن قرب؛ لأنها تضمَّنت معنى التهْديدِ والتخويفِ، ولترداد ذكرهم أيضاً في معنى غيْر الأول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ اختلف في تعْيينِ هؤلاء السفهاءِ، فقال ابن عبَّاس‏:‏ هم الأحبارُ، وذلك أنهم جاءوا إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمَّد، ما ولاَّك عَنْ قبلتنا، ارجع إِلَيْها، نتبعك ونؤمنْ بك، يريدُونَ فتنتَهُ، وقيل‏:‏ اليهود والمنافقُونَ، وقالَتْ فرقة‏:‏ هم كُفَّار قريش‏.‏

و ‏{‏ولاهم‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ صَرَفَهُمْ، و‏{‏يَهْدِي مَن يَشَآءُ‏}‏‏:‏ إِشارة إِلى هداية اللَّه تعالى هذه الأمة إلى قبلة إِبراهيم، ‏{‏وكذلك جعلناكم‏}‏، أيْ؛ كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته، و‏{‏جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً‏}‏، أي‏:‏ عدولاً؛ روي ذلك عن رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ وتظاهَرَتْ به عباراتُ المفسِّرين، والوَسَط‏:‏ الخيارُ والأعلى من الشيء، وواسطة القلادةِ أنفَسُ حَجَر فيها؛ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

و ‏{‏شُهَدَاءَ‏}‏‏:‏ جمع شاهدٍ، والمراد بالناسِ هنا في قول جماعة‏:‏ جميعُ الجنْسِ، وأن أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم تشهدُ يوم القيامة للأنبياءِ على أممهم بالتبليغِ، وروي في هذا المعنى حديثٌ صحيحٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وروي عنه؛ أنَّ أُمته تشهدُ لكُلِّ نبيٍّ نَاكَرَهُ قومه‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا الحديثُ خرَّجه البخاريُّ، وابن ماجة، وابن المبارك في «رقائقه» وغيرهم؛ قائلاً صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وكون الرسولِ شهيداً، قيل‏:‏ معناه‏:‏ بأعمالكم يوم القيامة، وقيل‏:‏ «عليكم» بمعنى «لَكُمْ»، أي‏:‏ يَشْهَدُ لَكُمْ بالإِيمان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا القبلة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال قتادةُ وغيره‏:‏ القِبْلة هنا بيْتُ المَقْدِس، أي‏:‏ إِلا فِتْنَةً لنعلَمَ من يتبعك مِنَ العربِ الذين لم يألفوا إِلا مسجد مكَّة أو من اليهود على ما قاله الضَّحَّاك الذين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنْ صَلَيْتَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، اتبعناك»، فأمره اللَّه بالصَّلاة إِليه، امتحانا لهم، فلم يؤمنوا‏.‏

وقال ابنُ عَبَّاس‏:‏ القبلة في الآيَةِ‏:‏ الكعبةُ، و‏{‏كُنتَ عَلَيْهَا‏}‏ بمعنى‏:‏ أَنْتَ عليها؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏، بمعنى‏:‏ أنتم‏.‏

وَمَا جَعَلْنَاهَا وَصَرَّفْنَاكَ إلَيْهَا إلا فتنةً، وروي في ذلك؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إِلى الكعبة، أكْثَرَ في ذلك اليهودُ والمنافقونَ، وارتاب بعض المؤمنين؛ حتى نزلتِ الآية، ومعنى‏:‏ ‏{‏لِنَعْلَمَ‏}‏، أي؛ ليعلم رسولِي والمؤمنون به، والقاعدة نَفْيُ استقبال العلْمِ بعد أنْ لم يكُنْ، و‏{‏يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ‏}‏ عبارةٌ عن المرتدِّ، والرجوعُ على العَقِبِ أَسوأُ حالات الراجع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الضمير في «كَانَتْ» راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة، حَسْبما تقدَّم من الخلاف في القبلة، «وكَبِيرَة» هنا معناه‏:‏ شاقَّة صعبةٌ، تكبُرُ في الصدور، ولما حُوِّلَتِ القبلة، كان من قول اليهود‏:‏ يا محمَّدُ، إن كانَتِ الأولى حقاً، فأنتَ الآنَ على باطلٍ، وإن كانتْ هذه حقًّا، فكنْتَ في الأولى على ضلالٍ، فَوَجَمَتْ نفوسُ بعْضِ المؤمنين، وأشْفَقُوا على مَنْ مات قبل التحويل من صلاتِهِمُ السالفة، فنزلَتْ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏، أي‏:‏ صلاتكم، قاله ابن عبَّاس وغيره، وسمَّى الصلاة إِيماناً لَمَّا كانَتْ صادرةً عن الإيمان؛ ولأن الإِيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال، فذكره إِذ هو الأصل، ولئلاَّ يندرج في اسم الصلاة صلاةُ المنافقين إِلى بيت المَقْدِسِ، فذكر المعنَى الَّذي هو ملاك الأمر، وأيْضاً سُمِّيتْ إِيماناً؛ إِذ هي من شُعَب الإِيمان‏.‏

* ت *‏:‏ وفي العتبية من سماع ابن القاسم، قال مالكٌ‏:‏ قال اللَّهُ تبارَكَ وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏ قال‏:‏ هي صلاة المؤمنين إلى بيت المَقْدِس، قال ابنُ رُشْد؛ وعلى هذا القول أكثر أهل التفسير، وقد قيل‏:‏ إن المعنى في ذلك، وما كان اللَّه ليضيعَ إِيمانكم بفَرْضِ الصلاة عليكم إلى بيْتِ المقدِسِ‏.‏ انتهى من «البَيَان»‏.‏

والرَّأْفَةُ‏:‏ أعلى منازل الرحْمَة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 145‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المقْصِد تقلُّب البصر، وأيضاً‏:‏ فالوجه يتقلَّب بتقلُّب البصر، قال قتادة وغيره‏:‏ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الدعاءِ إلى اللَّه تعالى؛ أنْ يحوِّله إِلى قبلة مكَّة، ومعنى التقلُّب نحو السماء‏:‏ أنَّ السماء جهةٌ قد تعوَّد العالَمُ منْها الرحمةَ؛ كالمطر، والأنوار، والوَحْي، فهم يجعلون رغبتهم حيْثُ توالَتِ النعَمُ‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلِّيَنَّكَ‏}‏‏:‏ يدلُّ على تقدير حالٍ، أي‏:‏ قد نرى تقلُّب وجهك في السماءِ طالباً قبلةً غير التي أنْتَ مستقبلها، فلنولينَّكَ‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏تَرْضَاهَا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تحبُّها، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحبُّ الكعبةَ والتحوُّل عن بيت المَقْدِسِ؛ لوجوه ثلاثة رُوِيَتْ‏:‏

أحدها‏:‏ لقول اليهودِ‏:‏ «مَا عَلِمَ محمَّدٌ دينَهُ؛ حتَّى اتبعنا»؛ قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ليصيب قبلة إِبراهيمَ- عليه السلام- قاله ابن عَبَّاس‏.‏

الثالث‏:‏ ليستألف العربَ؛ لمحبَّتها في الكَعْبة، قاله الربيع والسُّدِّيُّ‏.‏

* ع *‏:‏ والميزابُ هو قبلة المدينةِ والشامِ، وهنالك قبلةُ أهل الأندلسِ بتأريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلةٌ من كل أُفُقٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أمر بالتحوُّل، ونسخ لقبلة الشام، و‏{‏شَطْر‏}‏‏:‏ نصبٌ على الظرف، ومعناه‏:‏ نحو، وتلقاء، ‏{‏وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ‏}‏‏:‏ أَمْر للأمة ناسخٌ‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحقُّ الواجب على الجميع اتباعا لمحمَّد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمَّنت الآيةُ الوعيد‏.‏

وقوله جلَّت قدرته‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أعلَمَ اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- حين قالَتْ له اليهودُ‏:‏ راجِعْ بيْتَ المَقْدِسِ، ونؤمن بكَ؛ أن ذلك مخادَعَةٌ منهم، وأنهم لا يتَّبعون له قِبْلَةً، يعني‏:‏ جملتهم؛ لأن البعض قد اتبع، كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ وغيره، وأنهم لا يؤمنون بدينه، أي‏:‏ فلا تُصْغِ إِليهم، والآية هنا العَلاَمَةُ‏.‏

وقوله جلَّت عظمته‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لفظ خبرٍ يتضمَّن الأمر، أي‏:‏ فلا تركنْ إِلى شيء من ذلك، ‏{‏وَمَا بَعْضُهُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال ابن زيد وغيره‏:‏ المعنى ليستِ اليهودُ متبعةً قبلة النصارى، ولا النصارى متبعةً قبلةَ اليهودِ، فهذا إِعلام باختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم، وقبلةُ النصارى مَشْرِقُ الشمْسِ، وقبلةُ اليهود بيْتُ المَقْدِسِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ أمته، وما ورد من هذا النوع الَّذي يوهمُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظُلْماً متوقّعاً، فهو محمولٌ على إِرادة أمته؛ لعصمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقَطْعاً أن ذلك لا يكُونُ منْه، وإِنما المرادُ مَنْ يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر، قال الفَخْر‏:‏ ودلَّت هذه الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرهم؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم‏}‏ يدلُّ على ذلك‏.‏ انتهى، وهو حَسَنٌ‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ‏}‏‏:‏ لام «لَئِنْ» مؤذنةٌ بقَسَمٍ مقدَّرٍ قبلها، ولهذا كان الجواب‏:‏ له ‏{‏مَّا تَبِعُواْ‏}‏، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالة جواب القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضياً، لأنه إِذا حذف جوابه، وجب فعله لفظاً‏.‏ انتهى‏.‏